تأمل في قول موسى لقومه بمقربة قرية الجبارين: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].
يتبين لك أن الخسران المبين دنيا وأخرى في مخالفة أمر الله تعالى، لا في النجاة بالأبدان من أذى ينالها في الدنيا.
فليس بالضرورة أن يكون هذا فوزًا ليكون ضده خسارة؛ فالقوم خسروا بتقهقرهم وإن سلمت أبدانهم، خسروا وإن كلفهم الدخول إزهاق بعض أنفسهم وكان في الإحجام عنه سلامة أبدانهم.
إن الفوز الكبير قد يتحقق مع القتل وإزهاق النفس، وقد قال قائلنا قديمًا[1] والحربة تنفذ أحشاءه: "فزت ورب الكعبة".
وفي التنزيل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 4-8].
ثم عقب I بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].
(ذلك الفوز الكبير) ما وصف الله تعالى الفوز بهذا الوصف إلاّ في هذا الموضع من القرآن تعقيبًا على نبأ قوم قُتِّلوا تلك القتلة الشنيعة! وكما أن الفوز يتحقق مع قتل الفائز وإزهاق نفسه، فكذلك الخسارة اليوم لا تنفك عن بعض المترفين المنعمين الذين سلمت لهم أبدانهم وأوطانهم وأموالهم فهم يرتعون ويتنعمون وهم خاسرون.
وتأمل كيف جاء التعقيب بعد ذكر موقعة أحد وما أصاب المسلمين فيها من المصاب الجلل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149].
فهذه هي الخسارة الحقيقة الموجعة، أما خسارة جولة أو معركة فليست نهاية التاريخ، بل إن وراءها ما يأتي بعدها، وإن قُتِلَ مسلمٌ وعاش ظالم، قال الله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} فماذا كانت العاقبة؟ هل أصبح من الفائزين الظافرين؟ قال الله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].
من الخاسرين وإن عاش منعمًا مستمتعًا بنعم الدنيا كلها: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]، خاسرون، وإن غنموا الأموال ورزقوا الأولاد ومدوا بأنواع النعم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
وفي الغالب أن هذا المتاع والإمداد يكون إلى أمدٍ يملي الله له فيه ويستدرجه ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، بعد أن يغترّ ويسخر ويحسب أن الخاسر غيره، وما درى المسكين أنه أكبر الخاسرين.
وتأمل نموذجًا لهؤلاء أخبر اللهعنهم فقال: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 90-92]. وهذه سنة الله في خلقه: إن ربك ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[2].
وهذه السُّنَّة قد تتخلف في الدنيا عن معيَّنين، فيهلك أحدهم قبل أن يمسه العذاب الدنيوي؛ ليدخر له العذاب كاملًا يوم القيامة. غير أن عامة القرى يمسها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وعذاب الآخرة هو الخسران المبين: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الصحابي الجليل حرام بن ملحان رضي الله عنه، وذلك يوم بئر معونة.
[2] متفق عليه، صحيح البخاري (4409)، ومسلم (2583).
الكاتب: د. ناصر العمر
المصدر: موقع المسلم